فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء وكان المقصود منها أموراً ثلاثة: أولها: الدلائل الدالة على التوحيد وثانيها: الدلائل الدالة على القدرة على المعاد وثالثها: أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان، لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع هذه الجملة بما يكون مؤكداً لهذه الأغراض وهو شرح أهوال القيامة، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، ويدعوه ذلك أيضاً إلى ترك التكبر على الناس، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد، فلا جرم ذكر القيامة: فقال: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّآخَّةُ}.
قال المفسرون يعني صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة، قال الزجاج: أصل الصخ في اللغة الطعن والصك، يقال صخ رأسه بحجر أي شدخه والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن، فمعنى الصاخة الصاكة بشدة صوتها للآذان، وذكر صاحب (الكشاف) وجهاً آخر فقال: يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً لأن الناس يصخون لها أي يستمعون.
ثم إنه تعالى وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى: {يوم يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات.
يقول الأخ: ما واسيتني بمالك، والأبوان يقولان قصرت في برنا، والصاحبة تقول أطعمتني الحرام، وفعلت وصنعت، والبنون يقولون: ما علمتنا وما أرشدتنا، وقيل: أول من يفر من أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح، ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد، بل المعنى أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه، وهو كقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا} [البقرة: 166] وأما الفرار من نصرته، وهو كقوله تعالى: {يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً} [الدخان: 41] وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى: {ولا يسأل حميم حميماً} [المعارج: 10].
المسألة الثانية:
المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم، فإنه يفر منهم في دار الآخرة، ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل: {يوم يفر المرء من أخيه} بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد، لأن تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى: {لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأَنٌ يغنيه}.
وفي قوله: {يغنيه} وجهان الأول: قال ابن قتيبة: يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد:
سيغنيك حرب بني مالك ** عن الفحش والجهل في المحفل

أي سيشغلك، ويقال أغن عني وجهك أي أصرفه الثاني: قال أهل المعاني: يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملأ صدره، فلم يبق فيه متسع لهم آخر، فصارت شبيهاً بالغنى في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شيء كثير.
واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول، بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء، ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ}.
{ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ}.
مسفرة مضيئة متهللة، من أسفر الصبح إذا أضاء، وعن ابن عباس من قيام الليل لما روى من كثرت صلاته بالليل، حسن وجهه بالنهار، وعن الضحاك، من آثار الوضوء، وقيل: من طول ما أغبرت في سبيل الله، وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعالم القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة، قال الكلبي: يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه، واعلم أن قوله: مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته وأما الضاحكة والمستبشرة، فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية، أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم.
{وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ}.
{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ}.
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}.
قال المبرد: الغبرة ما يصيب الإنسان من الغبار، وقوله: {ترهقها} أي تدركها عن قرب، كقولك رهقت الجبل إذا لحقته بسرعة، والرهق عجلة الهلاك، والقترة سواد كالدخان، ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه، كما ترى وجوه الزنوج إذا أغبرت، وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين السواد والغبرة، كما جمعوا بين الكفر والفجور، والله أعلم.
واعلم أن المرئجة والخوارج تمسكوا بهذه الآية، أما المرجئة فقالوا: إن هذه الآية دلت على أن أهل القيامة قسمان: أهل الثواب، وأهل العقاب، ودلت على أن أهل العقاب هم الكفرة، وثبت بالدليل أن الفساق من أهل الصلاة ليسوا بكفرة، وإذا لم يكونوا من الكفرة كانوا من أهل الثواب، وذلك يدل على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس له عقاب، وأما الخوارج فإنهم قالوا: دلت سائر الدلائل على أن صاحب الكبيرة يعاقب، ودلت هذه الآية على أن كل من يعاقب فإنه كافر، فيلزم أن كل مذنب فإنه كافر والجواب: أكثر ما في الباب أن المذكور هاهنا هو هذا الفريقان، وذلك لا يقتضي نفي الفريق الثالث، والله أعلم؛ والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين. اهـ.

.قال ابن عطية:

{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)}
{الصاخة}: اسم من أسماء القيامة، واللفظة في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخ الآذان أي تصمها، ويستعمل هذا اللفظ في الداهية التي يصم نبؤها الآذان لصعوبته، وهذه استعارة وكذلك في الصيحة المفرطة التي يصعب وقعها على الأذن، ثم ذكر تعالى فرار المرء من القوم الذين معهودهم أن لا يفر عنهم في الشدائد، ثم رتبهم تعالى الأول فالأول محبة وحنواً، وقرأ أبو أناس جوية {من أخيهُ وأمهُ وأبيهُ} بضم الهاء في كلها، وقال منذر بن سعيد وغيره: هذا الفرار هو خوف من أن يتبع بعضهم بعضاً بتبعات إذ الملابسة تعلق المطالبة، وقال جمهور الناس: إنما ذلك لشدة الهول على نحو ما روي أن الرسل تقول يومئذ نفس نفسي لا أسألك غيري، و{الشأن الذي يغنيه}: هو فكرة في سيئاته وخوفه على نفسه من التخليد في النار، والمعنى {يغنيه} عن اللقاء مع غيره والفكرة في أمره، قال قتادة: أفضى كل إنسان إلى ما يشغله عن غيره.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «لا يضرك في القيامة كان عليك ثياب أم لا»، وقرأ هذه الآية وقال نحوه: لسودة، وقد قالتا: واسوأتاه ينظر بعض الناس إلى بعض يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس: {يغنيه} بالغين منقوطة وضم الياء على ما فسرناه، وقرأ ابن محيصن والزهري وابن السميفع: {يَعَنيه} بفتح الياء والعين غير منقوطة من قولك عناني الأمر أي قصدني وأردني. ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله حين بدت لهم تباشيرها من الكفار، و{مسفرة}: معناه: نيرة باد ضوؤها وسرورها، و{ترهقها} معناه تلح عليها، و(القترة) الغبار و(الغبرة) الأولى إنما هي العبوس والهم كما يرى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار، وأما (القترة) فغبار الأرض ويقال إن ذلك يغشاهم من التراب الذي تعوده البهائم، ثم فسر تعالى أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم الكفرة قريش يومئذ ومن جرى مجراهم قديماً وحديثاً.
نجز تفسير سورة {عبس} والحمد لله كثيراً. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصآخة}
لما ذكر أمر المعاش ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتن به عليهم.
والصاخّة: الصيحة التي تكون عنها القيامة، وهي النفخة الثانية، تَصُخ الأسماع: أي تُصِمُّها فلا تسمع إلا ما يُدْعَى به للأحياء.
وذكر ناس من المفسرين قالوا: تِصيخ لها الأسماع، من قولك: أصاخ إلى كذا: أي استمع إليه، ومنه الحديث: «ما من دابة إلاّ وهي مُصِيخة يوم الجمعة شَفَقاً من الساعة إلاّ الجنَّ والإِنس» وقال الشاعر:
يُصِيخُ لِلَّنبْأَةِ أَسْماعَهُ ** إِصاخةَ المُنْشِدِ لِلمنْشِدِ

قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأوّل، قال الخليل: الصاخَّة: صيحة تَصُخّ الآذان صَخًّا أي تُصِمُّها بشدة وقعتها.
وأصل الكلمة في اللغة: الصَّكُّ الشديد.
وقيل: هي مأخوذة من صَخَّه بالحجر: إذا صَكَّه، قال الراجز:
يا جارتِي هل لكِ أن تجالِدِي ** جلادة كالصَّك بالجَلامِدِ

ومن هذا الباب قول العرب: صَخَّتْهمُ الصّاخة وباتتهم البائتة، وهي الداهية.
الطبريّ: وأحسبه من صَخّ فلان فلاناً: إذا أصماه.
قال ابن العربيّ: الصاخّة التي تُورِث الصَّمَم، وإنها لمُسِمعة، وهذا من بديع الفصاحة، حتى لقد قال بعض حديثي الأسنان حديثي الأزمان:
أَصَمَّ بِكَ الناعِي وإِنْ كان أَسْمَعا

وقال آخر:
أَصَمَّنِي سِرُّهم أيامَ فُرقتهم ** فهل سمِعتم بسِر يُورِث الصَّمَما

لعمر اللَّهِ إنّ صيحة القيامة لمسمِعة تُصِم عن الدنيا، وتُسمِعُ أمور الآخرة.
قوله تعالى: {يوم يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ} أي يهرب، أي تجيء الصاخة في هذا اليوم الذي يهرب فيه من أخيه؛ أي من موالاة أخيه ومكالمته؛ لأنه لا يتفرغ لذلك، لاشتغاله بنفسه؛ كما قال بعده: {لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه} أي يشغله عن غيره.
وقيل: إنما يفر حذرا من مطالبتهم إياه، لما بينهم من التَّبِعات.
وقيل: لئلا يرَوَا ما هو فيه من الشدة.
وقيل: لعلمه أنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه شيئاً؛ كما قال: {يوم لا يغنِي مولًى عن مولًى شيئاً} وقال عبد الله بن ظاهر الأبهري: يفرّ منهم لما تبين له من عجزهم وقلة حيلتهم، إلى من يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه، ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد شيئاً سوى ربه تعالى.
{وَصَاحِبَتِهُ} أي زوجته.
{وَبَنِيهِ} أي أولاده.
وذكر الضحاك عن ابن عباس قال: يفرّ قابيلُ من أخيه هابيلَ، ويفر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمه، وإبراهيم عليه السلام من أبيه، ونوح عليه السلام من ابنه، ولوط من امرأته، وآدم من سَوْأة بنيه.
وقال الحسن: أوّل من يفرّ يوم القيامة من أبيه: إبراهيم، وأوّل من يفرّ من ابنه نوح، وأوّل من يفرّ من امرأته لوط.
قال: فيَرون أن هذه الآية نزلت فيهم وهذا فرار التبرؤ.
{لِكُلِّ امرئ مِّنْهُمْ يومئِذٍ شَأْنٌ يغنيه}.
في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يُحْشَر الناس يوم القيامة حفُاة عُراة غُرْلاً» قلت، يا رسول الله! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «يا عائشة، الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض» خرّجه التِّرمذي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يُحشرون حفاة عُراة غُرْلاً» فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: «يا فلانة {لكل امرئ مِنهم يومئذٍ شأن يغنيه}» قال: حديث حسن صحيح.
وقراءة العامة بالغين المعجمة؛ أي حالٌ يشغَله عن الأقرباء.
وقرأ ابن مُحيصن وحُميد {يَعْنِيهِ} بفتح الياء، وعين غير معجمة؛ أي يعنيه أمره.
وقال القُتَبي: يعنيه: يصرفه ويُصدّه عن قرابته؛ ومنه يقال: اعن عني وجهك: أي اصرفه واعن عن السفيه؛ قال خُفاف:
سَيَعْنِيك حرب بني مالِكٍ ** عن الفُحْشِ والجهلِ في الْمَحفِل

قوله تعالى: {وُجُوهٌ يومئِذٍ مُّسْفِرَةٌ}: أي مُشرقة مضيئة، قد علمت مالها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين.
{ضَاحِكَةٌ} أي مسرورة فَرِحة.
{مُّسْتَبْشِرَةٌ}: أي بما آتاها الله من الكرامة.
وقال عطاء الخُراساني: {مُسْفِرة} من طول ما اغبرت في سبيل الله جل ثناؤه.
ذكره أبو نَعِيم.
الضحاك: من آثار الوضوء.
ابن عباس: من قيام الليل؛ لما رُوي في الحديث: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار» يقال: أسفر الصبح إذا أضاء.
{وَوُجُوهٌ يومئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} أي غبار ودخان {تَرْهَقُهَا} أي تغشاها {قَتَرَةٌ} أي كسوف وسواد.
كذا قال ابن عباس.
وعنه أيضاً: ذِلة وشِدّة.
والقَتَر في كلام العرب: الغبار، جمع القَتَرة، عن أبي عُبيد؛ وأنشد الفرزدق:
مُتَوَّجٌ بِرِداء الملكِ يَتْبعه ** مَوجٌ ترى فوقه الراياتِ والقَتَرا

وفي الخبر: إن البهائم إذا صارت تراباً يوم القيامة حُوِّل ذلك التراب في وجوه الكفار.
وقال زيد بن أسلم: القَترة: ما ارتفعت إلى السماء، والغَبَرة: ما انحطت إلى الأرض، والغبار والغَبَرة: واحد.
{أولئك هُمُ الكفرة} جمع كافر {الفجرة} جمع فاجر، وهو الكاذب المفترى على الله تعالى.
وقيل: الفاسق؛ (يقال): فجر فجوراً: أي فسق، وفجر: أي كذب.
وأصله: الميل، والفاجر: المائل.
وقد مضى بيانه والكلام فيه.
والحمد لله وحده. اهـ.